السؤال:
نعلم أن تغيير المنكر فريضة حسب قدرة المسلم على المراتب الثلاث، ولكن كثر الكلام عن المنكرات السياسية في هذه الأيام، فأصبحنا نسمع عن الفساد السياسي ، فهل تدخل هذه المنكرات السياسية في المنكر الذي يجب إنكاره ؟؟؟ أم أن المراد المنكر الشرعي البحت مثل الزنا وشرب الخمر ؟؟؟؟ وما حكم من يسكت على هذه المنكرات السياسية ؟؟؟
بسم الله ، والحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وبعد :-
دائرة المنكرات تتسع لتشمل كثيرًا مما يعده الناس في صلب السياسة، فكلمة المنكر كلمة عامة تشمل كافة المنكرات التي تقع في المجتمع، وفي القرآن والسنة حديث طويل عن الترهيب من السكوت على المنكر .
يقول الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي:-
حديث القرآن والسنة عن السكوت على المنكر والوقوف موقف السلب من مقترفيه حكامًا أو محكومين حديث يزلزل كل من كان في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان.
يقول القرآن
لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون). (المائدة 78: 79).
ويقول الرسول: (من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان). (رواه مسلم وغيره عن أبي سعيد الخدري).
ومن الخطأ الظن بأن المنكر ينحصر في الزنى وشرب الخمر وما في معناهما.
إن الاستهانة بكرامة الشعب منكر أي منكر وتزوير الانتخابات منكر أي منكر والقعود عن الإدلاء بالشهادة في الانتخابات منكر أي منكر لأنه كتمان للشهادة وتوسيد الأمر إلى غير أهله منكر أي منكر وسرقة المال العام منكر أي منكر واحتكار السلع التي يحتاج إليها الناس لصالح فرد أو فئة منكر أي منكر واعتقال الناس بغير جريمة حكم بها القضاء العادل منكر أي منكر وتعذيب الناس داخل السجون والمعتقلات منكر أي منكر ودفع الرشوة وقبولها والتوسط فيها منكر أي منكر وتملق الحكام بالباطل وإحراق البخور بين أيديهم وموالاة أعداء الله وأعداء الأمة من دون المؤمنين منكر أي منكر.
وهكذا نجد دائرة المنكرات تتسع وتتسع لتشمل كثيرًا مما يعد الناس في صلب السياسة.
فهل يسع المسلم الشحيح بدينه الحريص على مرضاة ربه أن يقف صامتًا ؟ أو ينسحب من الميدان هاربًا أمام هذه المنكرات وغيرها خوفًا أوطمعًا أو إيثارًا للسلامة ؟.
إن مثل هذه الروح إن شاعت في الأمة فقد انتهت رسالتها وحكم عليها بالفناء لأنها غدت أمة أخرى غير الأمة التي وصفها الله بقوله:.
(كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله). (آل عمران 110).
ولا عجب أن نسمع هذا النذير النبوي للأمة في هذا الموقف إذ يقول: (إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم: يا ظالم فقد تودع منهم) (رواه أحمد بن حنبل في مسنده عن عبد الله بن عمرو) أي فقدوا أهلية الحياة.
إن المسلم مطالب - بمقتضى إيمانه - ألا يقف موقف المتفرج من المنكر أيا كان نوعه: سياسيًا كان أو اقتصاديًا أو ثقافيًا أو اجتماعيًا . بل عليه أن يقاومه ويعمل على تغييره باليد إن استطاع وإلا فباللسان والبيان فإن عجز عن التغيير باللسان انتقل إلى أخر المراحل وأدناها وهي التغيير بالقلب وهي التي جعلها الحديث: (أضعف الإيمان).
وإنما سماه الرسول تغييرًا بالقلب لأنه تعبئة نفسية وشعورية ضد المنكر وأهله وحماته وهذه التعبئة ليست أمرًا سلبيًا محضًا كما يتوهم ولو كانت كذلك ما سماها الحديث " "تغييرًا" لها.
وهذه التعبئة المستمرة للأنفس والمشاعر والضمائر لا بد أن تتنفس يومًا ما في عمل إيجابي قد يكون ثورة عامة أو انفجارًا لا يبقي ولا يذر فإن توالي الضغط لا بد أن يولد الانفجار سنة الله في خلقه.
وإذا كان هذا الحديث سمى هذا الموقف تغييرًا بالقلب فإن حديثًا نبويًا آخر سماه جهاد القلب وهي أخر درجات الجهاد كما أنها آخر درجات الإيمان وأضعفها فقد روى مسلم عن ابن مسعود - مرفوعًا - : (ما من نبي بعثه الله في أمة فبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل).
بين الفرد والجماعة:
وقد يعجز الفرد وحده عن مقاومة المنكر وخصوصًا إذا انتشر شراره واشتد أواره وقوي فاعلوه أو كان المنكر من قبل الأمراء الذين يفترض فيهم أن يكونوا هم أول المحاربين له لا أصحابه وحراسه وهنا يكون الأمر كما قال المثل: حاميها حراميها أو كما قال الشاعر:.
وراعي الشاة يحمي الذئب عنها فكيف إذا الرعاة لها ذئاب ؟.
وهنا يكون التعاون على تغيير المنكر واجبًا لا ريب فيه لأنه تعاون على البر والتقوى ويكون العمل الجماعي عن طريق الجمعيات أو الأحزاب وغيرها من القنوات المتاحة فريضة أوجبها الدين كما أنه ضرورة يحتمها الواقع.
والله أعلم .