السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: شاهدنا جميعا ما يجري على أرض تونس الحبيبة من إضرابات، وصدامات مع الدولة، بدأت بشاب قام بإضرام النار في جسده، ثم مات بعد ذلك متأثرا بما فعل، وذلك بعد محاربة البلدية والنظام في بلده له في مصدر رزقه، وقد اختلفنا في نقاشنا هل من يفعل مثل هذه الأمور من حيث الإضراب عن الطعام، أو حرق الجسد كما رأينا يعد منتحرا في ديننا، ويحكم عليه بأنه مات كافرا، وفي النار؟ أم ماذا أفتونا مأجورين؟
الشيخ:عصام تليمه
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد:
أولا: بداية نحن لا نقر مثل هذه الوسائل شرعاً، ولا ندعوا إليها أحدا، ولا يمكن لنا ذلك ، ونشدد على أن الانتحار أمر يرفضه الإسلام، لأن من مقاصد الإسلام العظمى الحفاظ على النفس، وحفظ النفس مطالب به المجتمع ، ومطالب به الإنسان المسلم أيضاً، وأن الانتحار كبيرة من الكبائر اتفق الفقهاء على حرمتها ، وينبغي على المسلم أن ينأى بنفسه عن هذه الطريقة في التعبير مهما كانت الضغوط ؛ لقوله تعالى: (ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما) وقوله تعالى: ( ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق) .
ثانياً: إننا ننظر إلى هذا الشاب، وحالات مماثلة له في وطننا العربي والإسلامي مثل: من تكره على نفسها في قسم شرطة، أو في أي مكان في ظل سلطة ظالمة لشعبها، فتحاول أن تدافع عن نفسها، فلا تجد إلا الانتحار وسيلة للهرب، ونماذج أخرى تحتاج لمن يفتي في هذه الأمور أن ينظر إلى دوفع الناس، لا إلى مجرد فعلهم.
ثالثاً: أن المنتحر الحقيقي هو الذي يأس من حياته، بناء على انغماس في الملذات، وانكفاء على المحرمات، وانقطاع صلته بالله عز وجل، مما جعله يتخبط في الحياة حائرا، يحيا على غير هدى، وهو ما ورد فيه قوله صلى الله عليه وسلم: "من قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن شرب سما فقتل نفسه فهو يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا".[1] ومع ذلك في موقفه هذا كلام آخر يقال، فقد قال العلماء: المقصود به من يستحل الانتحار، ويعتقد حله، فيموت كافرا، فيكون في النار.
رابعاً: ليس حتماً أن نهاية كل منتحر النار، كما هو مترسخ في فهمنا الفقهي، بل هو تحت مشيئة الله، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له؛ لعموم قوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) النساء: 48.
خامساً: لا يجوز لمن يفكر في الانتحار أن يتعلل بمغفرة الله إن فعل ذلك، لان الأمر يقتضي أن ينظر إلى عذاب الله مثلما ينظر إلى مغفرته إن فعل نفس الشيء؛ لأن مغفرة الله في أمر هكذا أمر غير مؤكد ؛ لأن الأمر يتعلق بعلم الله وحده دون الناس أجمعين.
سادساً : أن من يُضرب عن الطعام، أو يموت في مظاهرة، في لحظة فقد فيها العدل، وضاع منه الأمل، وخاب رجاؤه فيمن حوله؛ أن يغيثوا لهفته، أو يرفعوا عنه مظلمته، فقام بإضراب، أو قام بمظاهرة فمات فيها، ولم يكن مقدرا الموت فيها، ولم يسع لذلك الموت، أو قدر أنه سيدركه الناس قبل موته، أو فعل هذا بعد أن ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وضاقت عليه نفسه، من ظلم بشع، لا يملك رفعه، ففعل ما فعل مجبرا مضطرا إليه اضطرارا ليس له بديل آخر، فهذا وأمثاله أعتقد أنهم ليسوا المعنيين في الحديث بأنهم من أهل النار ، ونحن مطالبين بالاستغفار لهم والدعاء لهم، خاصة إن كان ظاهر أمرهم أنه ليس انتحاراً بالمعنى المعروف ، وهذا الكلام ليس من عندي، بل من نص حديث صحيح رواه الإمام مسلم في صحيحه، وهو:
"أن الطفيل بن عمرو الدوسي أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، هل لك في حصن حصين، ومنعة؟ قال: حصن كان لدوس في الجاهلية، فأبى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، للذي ذخر الله للأنصار، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة هاجر إليه الطفيل بن عمرو، وهاجر معه رجل من قومه، فاجتووا المدينة، فمرض، فجزع فأخذ مشاقص له، فقطع بها براجمه، فشخبت يداه حتى مات، فرآه الطفيل بن عمرو في منامه، فرآه وهيئته حسنة، ورآه مغطيا يديه فقال له: ما صنع بك ربك؟ فقال: غفر لي بهجرتي إلى نبيه صلى الله عليه وسلم، فقال: ما لي أراك مغطيا يديك؟ قال: قيل لي: لن نصلح منك ما أفسدت، فقصها الطفيل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم وليديه فاغفر".[2]
فالصحابي هنا لم يتحمل جو المدينة، الذي أتعبه صحيا، وربما أتعبه نفسياً إلى حد أفقده صوابه فصار حالة مرضية شديدة ، فعمد إلى سكين فقطع بها يده، فمات، وقد رآه صحابي آخر في المنام في الجنة، ولكنه غطى يده التي انتحر بها، كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم استغفر لهذا المنتحر، ودعا الله له بالمغفرة، يقول الإمام النووي: والحديث حجة لقاعدة عظيمة لأهل السنة: أن من قتل نفسه، أو ارتكب معصية غيرها، ومات من غير توبة فليس بكافر, ولا يقطع له بالنار, بل هو في حكم المشيئة. وهذا الحديث شرح للأحاديث التي قبله الموهم ظاهرها تخليد قاتل النفس وغيره من أصحاب الكبائر في النار, وفيه إثبات عقوبة بعض أصحاب المعاصي فإن هذا عوقب في يديه.[3]
سابعاً: أن الشاب التونسي لم يمت وقت محاولة الانتحار، بل عاش بعدها عدة أيام، فلعله تاب من فعله، ولم يرد بفعلته الانتحار الذي يصل به للموت، فمثل هذه الحالة قال فيها الفقهاء: أن من جرح نفسه فبقي حيا أياما مثلا ثم تاب ومات ، فينبغي الجزم بقبول توبته.
ثامناً : على أهل الشريعة النظر إلى مثل هذه الحالات بعين الرحمة والشفقة، فمن يحب أن يخسر حياته، وأن يخلف أبناء وراءه جوعى، إلا القهر، والقهر مر المذاق لا يعرف طعمه القاسي إلا من ذاقه، وإذا أضيف إلى القهر: قلة الحيلة، وهوان الإنسان على الناس، وعلى نفسه، وعلى من ائتمنهم الله عليه، كل هذه الأجواء لا شك تدعو الفقيه إلى النظر في مثل هذه الحالات نظرة أخرى غير النظرة التقليدية التي نجدها في كثير من كتبنا الفقهية.
تاسعاً: كل ما نؤكد عليه في مثل هذه المواقف: البعد عما يؤدي إلى التهلكة المباشرة، أو التي تؤدي إلى هلاك النفس، وأن نعبر بطرق تحفظ فيها النفس ، وألا يتسرع الإنسان في فعل شيء يؤدي إلى هلاكه. ولنبحث عن الوسائل الأخرى المشروعة التي توصل رسالة الاحتجاج بشكل محدد ومؤثر.
هذا ماقصدته من تأملات في المسألة، وأرجو ألا يفهم كلامي على أنه تبرير لمن يفعل مثل هذه الفعلة؛ لأننا لا نجيز ذلك، بل هو نظرة من داخل الشرع ، الذي يقدر مثل هذه الظروف، ويرعاها، ولا يجمع على المظلوم بين عجز المجتمع عن حمايته، ورد الظالم عنه، وأن يكون سيفا مسلطا على رقبته، فلا هو نال سعادة الدنيا، ولا نعيم الآخرة، وكل حالة تقدر بقدرها، وظروفها وملابساتها ، ولا يمكن تعميم الحكم على كل الأشخاص في كل الظروف والأحوال، نسأل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة.
[1] رواه مسلم في كتاب الإيمان (175) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] رواه مسلم في كتاب الإيمان (184) عن جابر رضي الله عنه.
[3] انظر: صحيح مسلم بشرح النووي (1/409).