رسالة إلى قُضاة الأرض
سالة إلى قُضاة الأرض / الجزء الثاني - خطورة منصب القضاء : 1- تولي القضاء قد يكون واجباً ، وقد يكون مباحاً ، وقد يحرم : فيحرم على من تولاه وهو جاهل بأحكامه وبأحكام الشريعة ، ويباح لمن كان يحسن القضاء ويوجد غيره يقوم به ، ويجب على من يحسنه ولا يوجد غيره ليحكم بين الناس ويقضي بينهم .
2- عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : ( لو يعلم الناس ما في القضاء ما قضوا في ثمن بعرة ! ولكن لا بد للناس من القضاء ، ومن إمرة ، برة أو فاجرة ). أخبَارُ القُضاة - لأبي بكر الضبي الملقب بـ( وكيع ). وعن مكحول قال : لأن أقدَّم فتضرب عنقي أحب إلى من أن ألي القضاء .وعن رافع ، أن عمر بن هبيرة دعاه ليوليه القضاء ، فقال : ما يسرني أني وليت القضاء ، وأن سواري مسجدكم هذا لي ذهباً وقال الفضيل بن عياض : إذا ولي الرجل القضاء : فليجعل للقضاء يوماً ، وللبكاء يوماً .
3- روى من أن عثمان بن عفان عرض على ابن عمر -رضي الله عنه- القضاء فأبى ولما ألح عليه لقبوله مذكرا إياه بأن أباه كان يقضى قال عبد الله: إن أبى كان يقضى فإذا أشكل عليه شيء سأل النبي - صلى الله عليه وسلم- وإذا أشكل على النبي - صلى الله عليه وسلم - سأل جبريل وإني لا أجد من أسأل.
4- عزف كثير من الأئمة عن تولي القضاء ، بل وقبَل بعضهم بالضرب والسجن على توليه ، وهرب بعضهم من بلده من أجل أن لا يتولى القضاء ، منهم أبو حنيفة ، وهو النعمان بن ثابت ، دعاه عمر بن هبيرة للقضاء ، فأبى ؛ فحبسه ، وضربه أياماً ، كل يوم عشرة أسواط ، وهو متماد على إبايته ، إلى أن تركه ) والأئمة الأربعة – كما يروى عنهم - قد امتنعوا عن القضاء : فإن الأنبياء الكرام عليهم السلام والخلفاء الراشدين الأربعة قد تولوه ، ومحمول كرههم على مبالغة في حفظ النفس ، وسلوك لطريق السلامة ، ولعلهم رأوا من أنفسهم فتوراً أو خافوا من الاشتغال به الإقلالَ من تحصيل العلوم
5- وروى أن الوليد أراد أن يولى يزيد بن مرثد القضاء فبلغ ذلك يزيد فلبس فروة وقلبها فجعل الجلد على ظهره والصوف خارجا وأخذ بيده رغيف خبز وعرقا ( أي عظم عليه لحم ) وخرج بلا رداء ولا قلنسوة ( أي حاسر الرأس) ولا نعل ولا خف وجعل يمشى في الأسواق ويأكل فقيل للوليد إن يزيد قد اختلط ( أي خرف) وأخبر بما فعل فتركه الوليد.
وسأل بعضهم وكيعا عن مقدمه هو وابن إدريس وحفص على هارون الرشيد فقال: كان أول من دعا به أنا فقال لي هارون: يا وكيع إن أهل بلدك طلبوا منى قاضيا وسموك فيمن سموا وقد رأيت أن أشركك في أمانتي فقلت يا أمير المؤمنين أنا شيخ كبير وإحدى عيني ذاهبة والأخرى ضعيفة فقال: هارون اللهم غفرا خذ عهدك أيها الرجل وامض فقلت: يا أمير المؤمنين والله لئن كنت صادقا إنه لينبغي أن لا يقبل منى ولئن كنت كاذبا فما ينبغي أن تولى القضاء كذابا، فقال: اخرج فخرجت، ودخل ابن إدريس فسمعنا وقع ركبتيه على الأرض حين برك وما سمعناه يسلم إلا سلاما خفيا، فقال له هارون: أتدرى لما دعوتك؟ قال لا قال: إن أهل بلدك طلبوا منى قاضيا وإنهم سموك لي فيمن سموا وقد رأيت أن أشركك في أمانتي وأدخلك في صالح ما أدخل فيه من أمر هذه الأمة فخذ عهدك وامض فقال له ابن إدريس: وأنا وددت أنى لم أكن رأيتك فخرج، ثم دخل حفص فقبل عهده. وجمع عدي بن أرطاة بين إياس بن معاوية والقاسم بن محمد وقال إن أمير المؤمنين أمرني أن أولى أحدكما قضاء البصرة فماذا تريان؟ فقال كل منهما عن صاحبه: أنه أولى منه بهذا المنصب وذكر من فضله وعلمه وفقهه ما شاء الله أن يذكر فقال عدي لن تخرجا من مجلسي هذا حتى تحسما هذا الأمر فقال له إياس: أيها الأمير سل عنى وعن القاسم فقيهى العراق الحسن البصري ومحمد بن سيرين فهما أقدر الناس على التمييز بيننا وكان القاسم يزورهما ويزورانه وإياس لا تربطه بهما رابطة فعلم القاسم أن إياسا أراد أن يورطه وأن الأمير إذا استشارهما أشار به دون صاحبه فما كان منه إلا أن التفت إلى الأمير وقال: لا تسأل أحدا عنى ولا عنه - أيها الأمير – فو الله الذي لا إله إلا هو إن إياسا أفقه منى في دين الله وأعلم بالقضاء فإن كنت كاذبا في قسمى هذا فما يحل لك أن توليني القضاء وأنا أقترف الكذب وإن كنت صادقا فلا يجوز لك أن تعدل عن الفاضل إلى المفضول فالتفت إياس إلى الأمير وقال أيها الأمير إنك جئت برجل ودعوته إلى القضاء فأوقفته على شفير جهنم فنجى نفسه منها بيمين كاذبة لا يلبث أن يستغفر الله منها وينجو بنفسه مما يخاف فقال له عدي: إن من يفهم مثل فهمك هذا لجدير بالقضاء حري به، ثم ولاة قضاء البصرة.
يقول الشاعر :
إذا جار الأمير وحاجباه *** وقاضي الأرض أسرف في القضاء
فويل ثم ويـــل ثم ويـــل *** لقاضي الأرض من قاضي السماء